30 - 06 - 2024

عاجل ثالث إلى سيادة الرئيس | عندما يفور التَّنُّور! .. طوفان الأقصى و التقصير العربي

عاجل ثالث إلى سيادة الرئيس | عندما يفور التَّنُّور! .. طوفان الأقصى و التقصير العربي

في الساعات الأولى من صباح السبت السابع من أكتوبر 2023 ؛ أعلن القائد العام لكتائب عزّ الدين القسام بدء عملية " طوفان الأقصى" ؛ ردا على "الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى، وعلى اعتداء المستوطنين على الفلسطينيين في القدس و الضفة والداخل المحتل". وبينما كان الفلسطينيون يهتفون "حطّ السيف جبال السيف واحنا رجال محمد ضيف" – في إشارة إلى السيفين المتقابلين في شعار حركة حماس –  وعلى وقع الانتصار الحاسم الذي سجلته المقاومة في سويعات قليلة؛ كانت القيادات الصهيونية غارقة في اجتماعات محمومة مرتبكة؛ تحاول استيعاب ومحاصرة ما يجري بإجراءات وقرارات سريعة؛ كان في صدارتها إعطاء تسمية مناسبة لعملية الرد المرتقبة على طوفان الأقصى. و من هنا بدأت في التداول إلى جانب "طوفان الأقصى" عملية "السيوف الحديدية " . 

وتذكر سجلات التاريخ العسكري أن إعطاء تسميات للعمليات العسكرية المزمع القيام بها عُرف لأول مرة في نهايات الحرب العالمية الأولى ، وأنه تطور بمرور الوقت كممارسة حتى أصبح من بين الإجراءات البيروقراطية العسكرية الراسخة التي لها أهمية كبيرة ، والتي تعتمد على تقنيات أيدولوجية نفسية ولغوية متقدمة. 

وتتوخى تسمية العملية العسكرية أهدافا عديدة ؛ في مقدمتها التأثير على معنويات وسلوكات الجمهور على الجانبين ؛ بطريقة متعاكسة ، وتحديد وتركيز الأهداف الموضوعة للعملية ودعمها ، وتحييد الخصائص غير المرغوبة لها ؛ باستخدام الدلالات اللغوية العميقة للكلمات المستخدمة. 

ومن المفهوم أن الأيدولوجية بما تحمله من محتويات دينية حاسمة في تأثيرها تعد الحقل الأكثر ملاءمة للبحث عن تسميات فعالة لتلك العمليات. فـ"السيوف الحديدية" كمثال لها رمزية قوية في الروايات التوراتية التي تقول إن الفلسطينيين كانوا يحتكرون تشذيب الأدوات الحديدية لحرمان اليهود من صناعة السيوف والرماح – راجع سفر صموئيل الأول ، الإصحاح 13. وهنا تتضح بجلاء الغاية من الرد الصهيوني على طوفان الأقصى وطبيعته ؛ فهو رد يشير إلى أننا بصدد حرب انتقام "مشروعة" ذات عمق تاريخي ، ويلمح ؛ باستخدام صيغة الجمع ، إلى أنها لن تكتفي بمواجهة الفلسطينيين وحدهم! و يعزز هذا الفهم أن مجلس الوزراء في الكيان بحث في نهاية ديسمبر الماضي تغيير هذه التسمية ؛ باعتبارها غير كافية! و تداول عدة مقترحات بديلة ، وبدا أن النيّة تتجه إلى تسمية عملية الرد على طوفان الأقصى بـ "حرب التكوين" ، وهذا يستدعي طبقا لمضمون سفر التكوين قضية البدايات ، وتسخير التاريخ من أجل فكرة الخلاص ، وبمعنى أكثر تركيزا ؛ خطة إبادة "عادلة " وضعها الرب ويظاهرها ؛ لبدء عالم أبدي جديد. و يقال إن نيتانياهو استحسن هذه التسمية بسبب الوقع الجيّد للكلمة Genesis في الإنجليزية!       

فماذا عن "طوفان الأقصى"؟  في الآيات التي تحكي عن قصة الطوفان في القرآن الكريم يقول تعالى إنه أمر نوحا بصناعة فلك "بأعيننا و وحينا" " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنّور ... وهي تجري بهم في موج كالجبال ... وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر ..." – الآيات 37 إلى 44 من سورة هود ، ويقول تعالى "كذّبت قبلهم قوم نوح ... فدعا ربه ... ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ، وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قُدِر ، وحملناه على ذات ألواح و دُسُر" – الآيات 9 إلى 13 من سورة القمر ، ويقول سبحانه "ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ، فأنجيناه وأصحاب السفينة و جعلناها آية للعالمين – الآيات 14 و 15 من سورة العنكبوت ، و يقول "إنّا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية ، لنجعلها لكم تذكرة وتعِيَها أذن واعية" – الآية 12 من سورة الحاقّة.  

لا يحتاج فهم الرواية القرآنية لقصة الطوفان إلى الغوص في التفاسير المعتمدة والاحتمالات التي تتجادل حولها ؛ فالقصة في بساطتها هي أن قوم نوح كانوا قوما ظالمين – بحكم الله – وأنه عاقبهم بالطوفان ، ونجّى جماعة المؤمنين الذين أقلتهم الجارية التي صنعها نوح بوحي وتكليف من الله ؛ استعدادا لما هو قادم ، وأن الطوفان تحقق بطريقين: ماء منهمر من السماء وماء تفجرت به الأرض من باطنها عيونا ، وأن الله أعطى نوحا علامة تسبق الطوفان تمثلت في فوران التنّور الذي هو وجه الأرض ؛ ليستبق وقوعه بركوب الفلك أو السفينة أو الجارية مع الناجين من قومه ، وأن نهاية الظالمين كانت الغرق في مياه الطوفان التي كانت أمواجها عظيمة كالجبال لا عاصم لأحد منها إلا من رحمه الله ، وأن هذه النهاية فتحت الباب أمام "عهد جديد" بعد نفاذ حكم الله وقضاء أمره الذي قدره بنهاية الظالمين ، وجعل السفينة آية وعبرة للأمم التي ستقوم من نسل جماعة نوح الناجية. 

من هذا السرد البسيط للقصة يتضح لنا مدى كثافة الدلالات التي تحملها تسمية عملية السابع من أكتوبر بالطوفان وتعيينه بإلحاق الأقصى به بطريق الإضافة . وهذا الإلحاق يطرح عددا من الأسئلة الجوهرية التي ترتبط من جانب بالقصة مثلما رويت في القرآن وفي غيره من الكتب المقدسة ، ومن جانب آخر بسياق الأحداث الجارية على أرض فلسطين وجذورها . وأهم هذه الأسئلة على الإطلاق سؤال النهاية المقدرة للأحداث ، والسؤال الخاص بطبيعة وتوقيت فوران التنّور في السياق الجاري ، وما هي طبيعة السفينة التي ستعصم المؤمنين ؟ وما علاقة شبكة الأنفاق المقامة تحت الأرض في قطاع غزة بالمشابهة التي قصدتها التسمية ؟ وما علاقة الطوفان بالأساس بالأقصى ؟ وكيف ستكون صورة الواقع الجديد على أرض فلسطين بعد الطوفان؟  

***

يقول الناطق باسم كتائب القسام في بيانه الأخير ( 17 فبراير ) إن عملية طوفان الأقصى انطلقت لمناصرة الأقصى ، وإنها لن تتوقف ما دام تحت الاحتلال . ويصر بنيامين نيتانياهو على أن عملية السيوف الحديدية لن تتوقف حتى يتحقق النصر المبين الذي يترجمه سفر إشعياء بعبارات واضحة هي الأخرى – راجع سفر إشعياء 60. 

فإذن ؛ تبدو المواجهة في الأقصى محتومة ؛ لكنها لن تكون كالمواجهات السابقة ! فالأنباء تتحدث عن قبول نيتانياهو خطة وزيره المتطرف بن غفير لتقييد دخول الأقصى خلال شهر رمضان ؛ برغم تحذيرات رئيس جهاز الأمن العام في الكيان رونين بار (18 فبراير) الذي رأي فيها لعبا بالنار ؛ مستنكرا ما وصفه بعربدة المستوطنين في الضفة ، وحديث وزير الدفاع جالانت عن وجوب التعامل بحذر وموضوعية مع ما قاله بار ، واعتبار لجنة المتابعة العربية الخطة بمثابة إعلان حرب دينية ، ومقدمة لسيطرة المستوطنين على الأقصى ؛ تمهيدا لهدمه وبناء الهيكل !    

و في المقابل ؛ دعت حركة حماس في بيان أخير لها الفلسطينيين (19 فبراير) إلى النفير وشد الرحال والرباط في الأقصى ، وقالت إن خطة التقييد هي إمعان في الحرب الدينية ، وإنها تشير إلى نيّة الاحتلال تصعيد عدوانه على الأقصى ؛ محذرة من أن المساس به لن يمر بدون محاسبة. وقال غازي حمد القيادي في الحركة إن عمليات استشهادية كثيرة ستلي عملية ملآخي (16 فبراير) التي نفذها فلسطيني خليلي شهد طفلا مذبحة الحرم الإبراهيمي التي نفذها في منتصف رمضان (فبراير 1994) طبيب يهودي يدعى باروخ جولدشتاين ؛ من مستوطني كريات أربع ؛ كان ينتمي إلى حركة " كاخ "العنصرية الفاشية" وينظر إليه اليوم في إسرائيل باعتباره بطلا قوميا ، ويقدسه المستوطنون !     

والتحضير للمواجهة المرتقبة على أشده ؛ حيث أضاف الكيان المحتل عشرات الحواجز ونقاط التفتيش إلى نحو 700 قائمة طوال الوقت في الضفة والقدس ؛ قطّعت المدن والأحياء فيهما إلى بؤر منعزلة ، ووضع المتاريس على الكثير من الطرق ، وسحب قوات الاحتياط من قطاع غزة لإعادة تأهيلها وإراحتها استعدادا للموقعة المرتقبة ، وقام بعزل القيادي الفلسطيني مروان البرغوثي المعتقل منذ 2002 في الحبس الانفرادي ؛ بزعم أنه يخطط لإطلاق انتفاضة جديدة في الضفة . وقد ذكرت صحيفة هآرتس العبرية (16 فبراير)  أن بن غفير الذي يعمل على تسليح المزيد من المستوطنين بعد عملية ملآخي ؛ ربما يرتب لاقتحام الأقصى في رمضان –  وقد فعلها في السابق (مايو 2021) ؛ اتباعا لما قام به آرئيل شارون في العام 2000 ؛ مما أدى إلى تفجر انتفاضة فلسطينية مسلحة دامت خمس سنوات .  

وهكذا يتحضر الجانبان واقعيا لمواجهة قاسية في الضفة الغربية والقدس ؛ يصعد عليها الكيان الصهيوني إلى ذروة مخططه بخوض حرب دينية فتاكة تنتهي – في تقديره – بنصر ساحق مبين ؛ يتحقق بهدم الأقصى و بناء الهيكل على أنقاضه !! و بالتعبيرات المأخوذة من السرديات الدينية ؛ فإن الجانبين يتحضران لإطلاق الخطة الإلهية للتكوين مجددا ، أو لفوران التنور الدالّ على اقتراب الطوفان !! 

وطبقا لذلك ؛ فإن خطط الكيان الصهيوني ليست مبنية على مجرد عزل الأقصى و اقتحامه من قبل أشخاص تافهين مهووسين ، ومنع المصلين من الوصول إليه ، أو إقامة صلوات دينية من فوق منبره؛ مثلما حدث في مساجد غزة التي تم تدمير معظمها ؛ بما في ذلك المسجد العمري ؛ أو حتى ذبح بقرات حُمر في ساحته ، أو خلاف ذلك . الأمر هذه المرة قد يتجاوز كل ذلك إلى هدم الأقصى بأي طريق كان ؛ على غرار الخطة التي لم تكتمل لإحراقه في أغسطس 1969 ؛ على وقع حالة النشوة والارتياح التي أصابت الكيان الصهيوني ؛ بعد ما جرى في حرب يونيو 67 التي كانت أعطيت تسمية "إطلاق الحمامة" ؛ في إشارة إلى الضربة الجوية التي تم عبرها تدمير قدرات سلاح الطيران المصري ، واستحواذ الكيان الصهيوني على سماء المعركة .    

إن الحدّة البادية في تقابل التسميات والخطط وتناقضها ؛ حسب البناء الفكري الفلسفي المتعلق بالجدل و التناقض – هي البرهان القاطع على كون المواجهة المتوقعة في الأقصى ستكون – أو من المقدر لها أن تكون – المعركة الفاصلة بين الحق و الباطل / الخير و الشر / النور و الظلام ؛ أو الانطلاقة الصاخبة للمشهد الختامي المتمثل في عودة "المسيا" لاستعادة مملكة داود ، وبناء المعبد في "المركز" ! طبقا للسردية الصهيونية الإنجيلية . فماذا نحن فاعلون ؟!!

***

في العاجل الأول إلى سيادة الرئيس ؛ اقترحنا أن تدعو مصر إلى اجتماع مصغر عاجل على مستوى القادة يضم الدول العربية الفاعلة والمعنية بمخططات الكيان الصهيوني ؛ لإعلان موقف ضاغط بأقصى قدر ممكن من القوة على الكيان الصهيوني ؛ بتقدير أن هذا الموقف – دون غيره – سيكون قادرا على تحريك الضغوط الأخرى الواقعة على المؤسسة الفاشية الحاكمة فيه ؛ باتجاه التأثير والفاعلية والإنجاز.  

وفي العاجل الثاني ؛ سمحت المعلومات التي أتيحت بتقديم قائمة بالإجراءات والقرارات التي يمكن أن تشكل مجتمعة هذا الموقف الضاغط . وكان من بينها القيام بتحرك فوري جماعي باتجاه مجلس الأمن الدولي ؛ لإعادة المطالبة بإصدار قرار ملزم بالوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة ، ومنع ترحيل الفلسطينيين ، وتجريمه ، والتحذير منه. وقد اكتسب هذا الإجراء مبررا إضافيا بعد أن استخدمت واشنطن حق الاعتراض – وعلى عكس رغبة جميع الدول الأعضاء في المجلس ؛ بمن فيهم المملكة المتحدة – لإفشال مشروع القرار الجزائري المطالب بوقف إطلاق النار.  

وعلينا أن نضيف الآن إلى مضامين هذا القرار المفترض التحذير من المخاطر غير المسبوقة لأية أعمال يقوم بها الكيان للإضرار بالمسجد الأقصى ، أو وضع قيود على حرية العبادة للمسلمين والمسيحيين في مدينة القدس .    

و في هذا العاجل ؛ وجدت أنه من المتعين عليّ التنبيه – إن كان ذلك مقبولا – إلى أن اجتماعا عربيا نقترحه يجب أن ينعقد قبل شهر رمضان ؛ ليتخذ الإجراءات و القرارات التي أشرنا إليها في العاجل السابق ، وأن يضيف إليها مجموعة من الإجراءات التي تكفل تشكيل شبكة حماية وأمان للأقصى ؛ قبل أن تقع الواقعة ؛  من خلالها يحدد المجتمعون طبيعة الرد العربي على قيام الكيان بعمل مجنون كهذا ؛ بحيث تضمن هذه الشبكة منعه من الإقدام عليه.  

إن ما يجري وما يتوقع حدوثه بشأن الاقصى يعطي ضرورة إضافية لعقد هذا الاجتماع والتعجيل به ؛ تجنبا لكارثة مدوية لا يمكن تحملها ، ويجب منعها استباقيا ؛ فما قد يحدث يمكن أن يفتح المنطقة كلها على جحيم هائل ؛ وعلى طوفان عارم في دواخل دولها ؛ لأن الغضب المكتوم في الشارع العربي – على اتساعه – لأسباب متنوعة – ضخم وغير مسبوق ، و لا يمكن كبحه بأكثر من ذلك .    

إن سلوكا إجراميا محتملا تجاه الأقصى عمل لا يمكن انتظار وقوعه والرد عليه ببيانات مستنكرة شاجبة ؛ لأن البلاء سيكون عظيما ؛ فالأمة ليست نائمة مثلما تدعي روايات الصهاينة بشأن تعليق مزعوم لجولدا مائير على حريق الأقصى في 1969 ؛ فوقتها كانت الأمة مذبوحة يائسة وعاجزة ومصدومة وليست نائمة – وهي ليست كذلك الآن !

لا يجوز لنا انتظار وقوع الطوفان وفوران التنّور حتى نركب الجارية ! فلقد فعلت التسمية فعلها ، وفتح "طوفان الأقصى" شهية الكيان الصهيوني على أقصانا ، مثلما هيأ له إمكانية الإقدام على ترحيل أبناء شعبنا الفلسطيني وإبادتهم.

التأخير في عقد هذا الاجتماع سيكون بمثابة تقصير عربي فادح . وليس عندي أدنى شك في أن القيادة الحكيمة في مصر قد تحركت في هذا الاتجاه ، وإن بقيت مواقف المعنيين غير معروفة ، وإن كان الأمل أن يكون قد جرى التوافق على عقده في اللحظة المناسبة. وها هي قد أتت!! 

أنقذوا غزة ... أوقفوا التقتيل والتجويع والإبادة ... عاقبوا هذا الكيان المجرم. 
--------------------------------
بقلم – عبد المجيد إبراهيم 
[email protected] 

 

مقالات اخرى للكاتب

في مناسبة عيد الإعلاميين ( 5 ) :





اعلان